التسامي والضياع في «ما بعد الغياب» للقاص تيسير سعيدين
عرار:
الشاعر والناقد عبدالرحيم جداية إن المتأمل في مجموعة ما بعد الغياب القصصية للأديب الدكتور تيسير سعيدين، يجد فيها تنوعا فنيا وتقنيا، وسيطرة للذوق والعاطفة على مفاصل القصص، التي ضمتها المجموعة، كما يجد المتأمل جملة أدبية يمتاز بها الكاتب بدقة مفرداته، وذائقته العالية التي تتشكل منها المعاني الإنسانية والعاطفية الرقيقة التي يمزجها كلوحة تشكيلية بألوانه الخاصة، فتشكل تلك المفردات والجمل صورة كلية لنصه الأدبي. وتمتاز نصوصه الأدبية بالكثير من الجمل الفعلية، وبعض الجمل الإسمية، حيث يسيطر الفعل في مجموعته، مثل قوله: «انطلقت، لاح برق، يؤلمه، يشرب»، وغيرها من الأفعال المضارعة التي شكلت مفتاح نصه القصصي، فالجملة في قصة «غريبة» يفتتحها القاص بجملة تتكئ على موروث سابق إذ يقول: «هي حاضرة منذ بدء الحفلة» وكلمة الحفلة ليست مقصودة بذاتها، فهو يريد أن يقول لتلك الحبيبة (هي حاضرة منذ بدء الخليقة) حيث اشتغل فنيا على الموروث الفكري وغير في البناء النمطي للجملة في نصه «غريبة» حين بادل بين مفردتي الحفلة والخليقة. كما يقدم لنا في نص «موتى» حداثة في الاستعمال دالة على زمنه المعاش، أو على الأقل دالة على زمن الحدث، إذ يفتتح نصه «موتى» بقوله: «نظر إلى صورتها المحفوظة في ذاكرة هاتفه النقال» فهو يربط الحدث بمعطياته في هذه الجملة، أهمها استخدام لفظ الهاتف النقال. ومن أجمل ما كتب في افتتاح نصوصه في مجموعته القصصية ما بعد الغياب تلك الجملة التي افتتح بها نص «انهيار» والتي يقول فيها «انت لا تستطيع قلب سير النهر بالاتجاه المعاكس» هذه الجملة الفنية العميقة التي أخذت من الواقع جريان النهر، واثبت هذه الحقيقة في نصه «انهيار» لكنه يطالب بتحدي تلك الحقائق، فمن يستطيع أن يقلب اتجاه النهر من أسفل إلى أعلى، هذا التحدي الفني الجمالي نجد له أصلا في مصبات الأنهار، حيث تسقط الأسماك في المصبات فتختنق وتموت، إلا قليلا من الأسماك التي تسبح عكس التيار، فلماذا لا نمشي عكس التيار؟ أهو الخوف أم عدم القدرة؟ مهما يكن السبب فإن القاص تيسير السعيدين يستفز دواخلنا أن نحاول ولو مرة واحدة أن نخالف السائد ونترك القطيع، ونشكل كياننا وجغرافيتنا وإنسانيتنا بأسلوب يتناسب مع ذائقة الكاتب والقاص والفنان والمفكر المبدع، فالحقائق ثوابت للعوام، وهي تحدٍ خاص لكل مبدع على هذه الخليقة. إن نصوص ما بعد الغياب القصصية للأديب الدكتور تيسير سعيدين، نصوصا قصصية قليلة العناية بالخبر والحكاية، إلا في بعض نصوصه مثل نص «طيران» ص 28 ونص «سفر» ص 29 فهذان النصان أقرب للمباشرة وأقل سوية من نصوصه التي يداعب فيها الجملة فيحلق الجمال، ويتبلور السرد، في رشاقة وخفة، فالقارئ يجد تفاوتا بين نص وأخر في هذه المجموعة القصصية، لأنها أخذت زمنا طويلا في كتابة هذه المجموعة وجمعها بين دفتي كتاب، مما جعل السوية الفنية في حاجة لعناية في بعض القصص وربما الاستغناء عن بعضها، مثل قصة «وعد» التي يقول في خاتمتها: «عندما جاءت الليلة الخمسون بعد المائة.. انتكست انتكاسة كبيرة» والناقد المتمعن يعرف قيمة الأرقام والأعداد والليالي والسنوات في البناء القصصي ولا بد من قصدية لذكر الليلة الخمسون بعد المائة، لكن لم أجد لها دلالة أو قيمة منطقية تحصن نصه القصصي بمعنى ايحائي متميز، وكان الأولى أنلا تقع هذه القصة في بداية مجموعته، وربما الأولى حذفها إلا إن كان له تأويلا لم استطع الوقوف عليه. قصة»حرمان رشفة»وصف وتحليل: إن قصة «حرمان رشفة» من مجموعة «ما بعد الغياب» القصصية، لا تمثل المجموعة بأسلوبها، وتقنيتها، وبعدها الفكري، والاجتماعي، حيث احتوت المجموعة على مئة وعشرة قصص، وكتبت القصص على مدى زمني طويل، جمعت بين دفتي الكتاب، ولكنها لا تمثل بمجملها نموذجا قصصيا واحدا، إذ تتفاوت قصص المجموعة في طولها، وفنياتها، لكن هذه القصة تم اختيارها لتكون نموذجالتحليل أسلوب تيسير سعيدين في بناء قصته، والتي يفتتحها بقوله: «يشرب قهوته الخاصة» فالحدث واضح هنا في شرب القهوة، من قبل شخصية مذكرة ليست واضحة الملامح، فقد اشتغل القاص على تجريد تلك الشخصية من ملامحها الحقيقية، حتى يخلق عند المتلقي صورته الذهنية الخاصة، لهذا الشخص الذي يشرب القهوة، فقد يكون القاص نفسه، وقد يكون القارئ، وقد يكون أي شخص اعتاد شرب قهوته بمذاق معين، ليكشف لنا القاص ملامح الزمان، أو فلنقل ملامح اليوم، إذ يقول: «يشرب قهوته الخاصة كل صباح» وهذا طقس منتشر في قارات العالم ومختلف الشعوب، تناول القهوة صباحا، وما زال الوضع عاديا طبيعيا، يحتمل أن يكون الفاعل أي شخص على هذا الكوكب. لكن القاص يوضح لنا الحالة التي يشرب فيها القهوة، بقوله: «جلس على أريكته كما العادة دائما» حيث ترك القاص الشخصية مجردة لكنه صور لنا ملامح الهيئة في الجلوس، وهذه القصة التي قامت على فعل الشرب والجلوس، يأتي الفعل الثالث في هذه المنظومة القصصية، بقوله: «تأمل سقوط ورقة من شجرة مجاورة» حيث نقل بؤرة التصوير من حالة الجلوس وشرب القهوة، إلى تأمل سقوط ورقة من شجرة ما، لكنها مجاورة لذلك الشخص، وهذا السقوط من أعلى إلى أسفل، وسقوط ورق الشجر يختلف عن سقوط الحجر، فالورقة تسقط متقلبة باتجاهات متعددة حسب الهواء وحسب الجو، وتسقط الورقة مترنحة مما يمثل حالة التوهان والضياع عند بطل القصة، وسقوط الورقة هي حركة بيولوجية، وفيزيائية، والجزء البيولوجي منها تآكل الأنسجة التي تحمل الورقة، وتغلب الجاذبية فيزيائيا على وزن الورقة لتسقط من أعلى إلى أسفل. وهذا يأخذنا إلى تفاحة نيوتن، التي سقطت على رأسه وكتب قوانين الجاذبية الثلاث، ربما استعار القاص جزئية نيوتن في الجاذبية، وربما لم يلتفت إلى تلك الخاصية، فيكمل القاص تشكيل حركة الشخصية التي تناولت فنجان القهوة، ورشف الرشفة الأولى، وهنا نتأمل هذه الرشفة الأولى، التي تعني أن هناك رشفة ثانية وثالثة ورابعة، مما يعطينا بوادر للحالة، للرجل الذي يشرب القهوة قرب شجرة مجاورة، هذا الرجل الذي تأمل سقوط الورقة، يقول القاص: «مر بخاطره طيف أنساه المذاق الرائع لها» فالحالة التأملية التي يعيشها الشخص ما زالت تسيطر عليه، حالة طيف أنسته المذاق، لنسأل ما هذا الطيف الذي أنساه المذاق، طيف صباحي مر بخاطره، لكن القاص بحرفية يكمل بناؤه القصصي بقوله: «ربط بين المشهدين» والقارئ الحصيف يعرف المشهد الأول، وهو مشهد السقوط، سقوط الورقة عن الشجرة المجاورة، وهذا المشهد مشهد خارجي حسي أدركه الشخص الذي يشرب القهوة ببصره، أما المشهد الثاني وهو الطيف، مشهد مستجلب في ذاكرة الشخص، حيث توقف عن شرب القهوة ووضع الفنجان على المنضدة أمامه، فيزيد الوصف الصورة وضوحا، ويقول القاص: «راح يتأمل تفاصيل ذلك الطيف». شخص ومشهدان يشكلان القصة، حيث يربط القاص بين دواخل الشخص وعالمه الخارجي، كما يربط الشخص بحالة التأمل تفاصيل ذلك الطيف، الذي غزى فكره فكانت النتيجة أن لملم ذاته بهدوء، ويختم قصته بقوله: «وانسل تاركا بخار الفنجان وهو يتعالى حرقة»، فقد أتانا بمشهدي الورقة والطيف، تلك الورقة التي سقطت من أعلى إلى أسفل بفعل الجاذبية، فجاءنا بختام قصته بمعادل موضوعي للسقوط، حين انسل البخار وتعالى، هذا التعالي هو تحول فيزيائي من الحالة الصلبة إلى الحالة السائلة إلى الحالة الغازية في بخار القهوة، حتى تتصاعد، ولكن كيف تصاعد البخار، يقول: «وهو يتعالى حرقة» هذه الحرقة حالة إنسانية بشرية عاطفية، تشكل التسامي مع تصاعد البخار والذي يشكل معادلا موضوعيا لحالة التشتت والضياع عند سقوط ورقة الشجر، ويشكل معادلا موضوعيا للحياة والموت، وقد أسقط القاص هذا المعادل الموضوعي على بخار القهوة، وورقة الشجر ليؤنسن هذه الحالة النفسية للشخص الذي يشرب فنجان القهوة، وقد أنسن هذا الفنجان بأنسنة صاحبه، الذي وضع فنجان القهوة قبل أن يرشف رشفة واحدة، وهو يتأمل ذاته وما يحيطه في الواقع، ترك تفاصيل قصته تتحدث عن عنوانها، «حرمان رشفة». وكأن القاص أراد أن يقارب بين رشفة الحب، ورشفة الحياة، ورشفة الوجود، التي حرمها بطل هذه القصة، وقد حرمها بحرقة، دلالة على الألم، فعندما كان صلبا سقط كورقة الشجر من الأعلى إلى الأسفل، وهذه الحرقة حولته إلى حالة غازية، إلى بخار في فنجان، حتى يتعالى على ألمه وما فقده، فهل يستطيع أن يواصل التعالي، أم أن البخار سيتكثف يوما ويسقط دمعا حارقا على خدي البطل. خاتمة: لقد أوجز القاص تيسير سعيدين في مجموعته القصصية «ما بعد الغياب» فأجاد التكثيف، تكثيف الجملة، وتكثيف المشهد، كما أشتغل فنيابالاتكاء قليلا على جانب حكائي، جسده قصة متماسكة البناء، وقد ابتعد فنيا عن سرد الأخبار، التي لا تليق بفنية القصة القصيرة، ولا البناء القصصي، وهذا كله نتيجة للخبرة اللغوية في بناء الجملة الفنية عند الدكتور تيسير سعيدين، وقدرته على بناء النسيج بأبعاد فكرية وعاطفية ولغوية، فالمضمر العاطفي له أهميته، فيمجموعة «ما بعج الغياب» وفي شخصية تيسير سعيدين القصصية، ولا ننسى ذلك البعد النفسي الذي يؤنسنه في بناء قصصه، مما يحتاج القارئ الحصيف والناقد إلى التأني في تحليل النص، وربط العلاقات الجمالية والإنسانية، وصولا إلى نسيج قصصي متماسك، يدل على خبرة القاص القصصية.